خاص بـ«سينماتك»

 

فيلم «السِت»... سيدة قوية تُسيّر مجتمعها وتنتصر لحرية المرأة

بقلم: خالد ربيع السيد/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 
 
 
 
 

تعطي معظم النساء في الطبقات الاجتماعية المختلفة من أهل السودان اهتماماً كبيراً للزواج، بل إنهن يعتبرنه الحدث والقرار المفصلي الأهم في الحياة لدى الأسرة، وبالتالي هو الشأن البالغ الأهمية لكل فتاة مقبلة على الزواج.

لكن ثمة ظروف اجتماعية؛ وأخرى تتعلق بالموروثات الثقافية المتمثلة في العادات والتقاليد، وثالثة مرتبطة بالنواحي الاقتصادية لدى الأسر والمجتمع بشكل عام؛ تشكل عوامل مؤثرة في قرار الزواج، وبالتالي تحد من حرية الفتاة في الاختيار، وتؤثر أيضاً في رأي أهلها وخططهم في تزويج بناتهم، فهذه الظروف مرتبطة بوعي المرأة ودورها في الحياة بعيداً عن الضغوط المختلفة، وهي في غالب الأحوال تسعى للانتصار لإرادة الحب.

 

بناء درامي يتحرى الصدق الفني

من تلك الخلفيات ينسج فيلم «الست» الروائي القصير للمخرجة السودانية الشابة سوزانا ميرغني، قصته لتأخذ المشاهد الى مناحي أخرى أعمق وأكثر حفراً في سيسيولوجية وثقافة المجتمع ومفاهيمه الظاهرة المؤثرة التي اشتغلت عليها المخرجة ـ وهي كاتبة القصة والسيناريو أيضاً ـ بسرد سينمائي يجمع بين الواقعية والرمزية والتعبيرية الإيحائية؛ والتي تغوص في خصائص ثقافية ترسخت في المجتمع القروي السوداني الذي غادره الاستعمار الانجليزي وانسحب عن تطويره بعد جلاؤه واستقلال البلاد منذ منتصف الخمسينيات في القرن الماضي، ليتركه يكابد الحياة بشكلها البعيد عن تكنولوجيا الرأسمالية، وبالتأثيرات المترتبة على شخصية الانسان السوداني سواء أكان رجلاً أم امرأة.

غير أن هذا الفيلم القصير والمكثف في سرده البصري وحواراته اللماحة، ما يحيل طرحه المبتسر والمختصر إلى عدم اكتمال فهمه أو حتى سلب المتعة التي كان لها أن تتحقق بفعل مونتاج وافي ومتوازن وبإعطاء عناصره حقها في الطول الزمني والموضوعي الذي لا يترك مكاناً للخلل الاستيعابي فيه.

هذا الاختصار يضع الفيلم في موضع الظلم، ويثير الكثير من التساؤلات، وبالتالي يتطلب بعض التحليل والتفسير لفهم ما ترمي إليه تفاصيله؛ رغم أن العقدة الظاهرة بسيطة ومفهومة، لكن ما هو خفي ومشار إليه بإيحاء وتلميح وأحيانا بغموض يشي بالمؤثرات والخفايا التي يطرحها الفيلم بذكاء بالغ، وبتوليف يتطلب المشاهدة المتأملة، خصوصاً ما جاء في أحاديث السِت مع من حولها؛ أو حتى في المونولوج الداخلي الذي نسمعه بصوتها؛ والذي برع السيناريو في بناءه وبثه في سياق الفيلم.

 

كلمات الست الحكيمة

شخصية "الست" ودورها ينحوان الى التعقيد والبساطة في نفس الوقت؛ فقد أدته الممثلة المتمكنة السيدة "رابحة محمود" بتقمّص يصعب على الممثلات المحترفات أداؤه بهذه الكيفية التي ظهرت بها، فهي ممثلة مسرح قديرة ومخضرمة.

إجادتها لأداء الدور يجعل المشاهد يشعر بأنها لا تمثل وأنها شخصية حقيقية من قلب وواقع تلك القرية، حيث قوة الاقناع والصدق الفني يصل الى درجة الدهشة، وربما وجد المتلقي نفسه يتمتم: هل فعلاً هذا تمثيل؟

منطوق كلمات الست تفيض برمزية عصيّة على التقليد؛ فهي تنطق بالحكمة الرشيدة؛ نتيجة تراكم خبرات السنين لسيدة في مثل عمرها التي تجاوزت الستين.

قد تصل تلك الحكمة والقوة في الشخصية الى المتلقي بسهولة، وقد تتمنع عليه بسبب التكثيف والاختصار، إلا إذا شاهد الفيلم عدة مرات، فهو ليس فيلماً للمشاهدة لمرة واحدة، إنه فيلم قصير في زمنه (20 دقيقة) طويل في طرحه وفهمه وتأويلاته، لأنه يتماس مع البعد التاريخي والاجتماعي والثقافي، وهذه براعة مقدرة للمخرجة وكاتبة السيناريو وفريق العمل بأكمله في تنفيذ مشاهد وتتابع تفاصيل الفيلم. وهي أيضاً تشير إلى ما تحمله المخرجة من وعي وحرفية سينمائية تمكنها من أن تقدم أعمالاً قادمة مهمة.

 

قصة حب عادية... ولكن!

على أية حال؛ يحكي فِيلم «السّت» عن قصّة عاطفيّة تدور في مجتمع فلاحي بسيط، قوم يزرعون القطن ويحصدونه بالأيدي والوسائل البدائية في زرعه وحصده وجمعه وغزله، وهي المشاهد الآسرة الأولى التي تصور الفتيات وهن يجمعن القطن في الحقل.

في هذه البيئة تحدث قصة الحب بين فتاة (حاصدة للقطن) تدعى "نفيسة" (الممثلة مهاد الطيب) وشاب (جامع للقطن) يدعى "بابكر" (الممثل طلعت فريد)، ولدا ونشئا وعاشا في هذه القرية، وليس من تفاصيل كثيرة لقصة الحب هذه، سوى نظرات العيون المحملة بالوله والعشق الخفي، وثمة أغنية تنساب كأنها لسان حال الحبيبة: «حبيبي تعال، تعال نتلم. ما دام الريد (الحب) اختلط بالدم»؛ (بصوت فاطمة فريد).

 

حكاية نساء سودانيات

من خلال مجتمع القرية نتعرف على نماذج من نوعيات النساء، نساء يمثلن ثلاثة أجيال، فهناك السيدة أو "السِت" الكبيرة الجدة (الحبوبة) القوية النافذة الكلمة والتي لها سلطة على الجميع في القرية، وهي الحاملة في دواخلها رافضاً متجذراً للإنجليز؛ نتيجة لما صنعوه في بلادها من استغلال لخيراته، ولذلك هي رافضة للتسلط وسلب الحرية، ومنها أصبحت امرأة قوية. صنعت شخصيتها بالانتصار لحريتها وحرية حفيدتها، ولكنها تماس عليها التسلط بشكل آخر.

ثم هناك الأم التي تمثل نوعاً آخراً هو الجيل الوسط من النساء، وتمثله سيدة تدعى "عائشة" (الممثلة حرم بشير) والدة بطلة القصة؛ الساعية لتزويج ابنتها من رجل مقتدر مادياً، جاء للقرية للاستثمار فيها واستغلال مواردها: الأرض والقوى البشرية، وليس بسبب الحنين الذي يدعيه.

ثم الفتاة "نفيسة" التي تمثل الجيل الراهن المكافح بالعمل والساعي لتحقيق أحلامه ورغباته وفق نظرته التي حتمتها عليه مستجدات العصر ومفاهيم دور ومكانة وخيارات المرأة الجديدة.

إذن، هو فيلم عن النّساء السودانيات والحرية وبناء الشخصية الواعية بقدرها وخياراتها... النساء باعتبارهن المحرك للنهوض بالمجتمع وفق الأصالة الخالصة، المتصدرات لأخذ القرارات المهمة في حياتهن بالاقتناع والجرأة والحزم.

إنهن النساء ذوات الشأن في العائلة والمجتمع؛ أو المتذبذبات من جيل الوسط الخانعات والخائفات من غدر الزمن؛ وقد أثرت عليهن القيم الهشة كالتباهي والاستعراض، دون الانتباه للمستقبل القويم الذي ينبغي أن تعيشه بناتهن: "أم فايزة" (الممثلة انتصار عثمان)، ثم النساء، الفتيات، المغلوبات على أمرهن: "فايزة" (الممثلة فاطمة فريد).

 

صراع البياض والحرية

منذ الثانية الأولى في تتر الفيلم نرى زهرة القطن، الرمز الأكيد من عدة جوانب، هو نتاج الأرض وخيرها. هو البياض الذي يغلف الكساء والغطاء من غدر الزمن. هو الثروة التي يقتنصها الاستغلاليون بدءًا من الانجليز وحتى ابن القرية الوصولي... هكذا يسلّط الفيلم الضّوء على صراع الحب بين المرأة والرجل والطمع والحرية. المرأة: بحريتها. مكانتها. سعيها الدائم لخلق عالمها الأبيض، كالقطن الذي تزرعه وتحصده وتنقيه لتصنع ثوبا من البياض، وسائلها واحتياجاتها ومساراتها الناصعة. مكابداتها وموقفها من التّغيرات التي تفرضها المبادئ المتمسكة بالأصالة في مواجهة تكنولوجيا العصر، وتأثيرها على حياتها وحياة بناتها وحفيداتها.

وهكذا، يتناول الفيلم حكاية هذه الفتاة القروية التي تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، وقلبها مولع بشاب وتتمنى الزواج منه، لكنّ أهلها رتبوا لها زيجة بشاب آخر يدعى "نادر" (الممثل محمد حسن)، وهو رجل أعمال يعيش في دولة قطر، مغترب عاد الى بلاده وقد أسس مع والده مصنعاً حديثاً في بلاد الغربة، يستثمر فيه زراعة القطن بما تعود عليه وعلى أهل القرية بالخير والنماء، هو المغترب كما يصفونه، بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات ترسخت في الفهم العام عن هوية ودور وشخصية المغترب.

 إنه الضمان للمستقبل، والنوعية من الرجال (المغتربين) الذين أصبحوا منذ عقود مضت (زمن الانقاذ البغيض) الحلم الذي يراود النساء الكبريات لتزويج بناتهن منهم لضمان استقرارهن. وهذا حال أم نفيسة.

غير أن السِت، الـ"حبوبة" نفيسة، وهي كذلك اسمها نفيسة، ذات مكانة سلطوية راسخة في القرية؛ هي السيدة الآمرة الناهية، لا شيء يتم في القرية دون أخذ موافقتها؛ وهي تقف إلى جانب حفيدتها بكل تصميم... سألتها عندما جاء المغترب لخطبتها؛ سؤالاً مقتضباً يوحي بعلاقة التفاهم بينهن: والليلة كيف؟ فهزت نفسية رأسها بالرفض. فطمأنتها الجدة: لا تخافي، أمشي.

أي: هل ستوافقين الليلة على العريس؟ ولكن الست طمأنتها بأنها لن توافق على زواجها من "نادر" المغترب المنسلخ عن بيئته وأصله.

 

موقف الست

لذلك كانت الست على موقف رافض مسبق من نادر، ثم كشفته منذ اول لقاء به، هو رجل لم يحب نفسية لذاتها، بل أنه لم يتعرف عليها حين رآها أول مرة وحسبها الخادمة عندما قدمت له الماء و"الشربات". حين جاء ليخطبها. إنها صفقة الزواج التي ستمكنه من تنفيذ مشروعه في القرية واستغلال القطن والتجارة فيه بما يضمن له الربح الوفير. إنه قبل كل ذلك ابن عائلة تركت جذورها وتخلت عن قريتها لتؤسس ذلك المصنع في الدوحة... وهذا ما ترفضه الست، ترفض تركهم وتخليهم عن وطنهم.

ثم أنها لها نظرتها الخاصة في والد وجد نادر؛ اللذان تعرفهما منذ سنوات بعيدة. والده أحد المتسلقين بلا مبادئ، اغترب وترك بلاده ليبني مجده في بلاد "العماير" كما تصفها عائشة. إنه "ابن الكلب"، كما تصفه الست. سافر وترك القرية، حلقة ضعيفة في نسيج القرية، "الخيط ينقطع مكان رقيّق"، هو يمثل هذا الضعف الرقيّق، نوعية من الرجال ترفضهم حكيمة القرية. ولأنها تعرف جد نادر الذي كان "يرطن" مع الانجليز (في إشارة لتواطؤه معهم)، تقرر بأن هذا العرس لن يتم أبداً؛ "حتى لو السماء انقدت ونزل فوق راسي الثلج حتى تختار البت لروحها".

لم توافق الست على هذا الزواج، لأنها كشفت خفايا النوايا، ولكننا نستمع إليها وهي تتحدث مع نفيسة حديث القلب، فتروي لها كيف أنها تزوجت من رجل يكبرها وهي كانت فتاة صغيرة، وبعدما توفي زوجها وهي لا تزال صغيرة أصبحت تمتلك حرية كبيرة.

هنا توصي حفيدتها بأن تكون مثلها: "أعرف أنك تريدين شاباً صغيراً مثلك لكن كوني مثلي"، فهي ترفض زواجها من نادر وفي نفس الوقت تؤكد بأنه لن تتزوج نفيسة بحسب رأيها أو أن تختار بنفسها: "أنتِ أيضاً ممكن أن تكوني ست وتعرسّي الشخص اللي أختاره لكِ أنا".

نرى "فايزة" صديقة "نفسية" في زفة زواجها من نادر! ... لم تكن الاضاءة ساطعة لترينا ملامح العريس في هذا المشهد، أنه نادر. والمهم هنا أن نادر حقق مبتغاة في الزواج الذي يضمن به الاستثمار في القيمة المضافة للأرض، وليس مهماً أن نرى توافقاً بين نادر وفايزة (الممثلة فاطمة فريد)، فيظهران في مشهد الزفة وكأن لا علاقة بينهما، وهما كذلك. ولكن تواجه نفيسة هنا تسلطاً وفرضاً لرأي الست عليها.

 

حلوى لذيذة لكنها مرفوضة

في ذلك كله لا يهمهن، نفيسة وجدتها، من أمر نادر سوى الحلوى التي جلبها كهدية للخطبة، فتستعذبها نفيسة وتقول عنها الجد: حلوة والله! ولكن هل هذه الحلوى هي الطُعم والشَرَكْ؟ إشارة عابرة تؤكد لسان حالهن، بأنه حتى لو أتيت بما هو حلو فإننا نرفضه.

تستاء الست من نادر الذي حرق لها قطنها بسيجارته عندما جاء الى الحقل. هو لا يحترم الأرض ولا القطن. تتحدث الست لنفيسة فتقول: "قضيت حياتي كلها أطرد الحشرات من قطني"؛ " لذلك يجب أن تتزوجي الشخص الذي سأختاره لك أنا".

يأتي صوت ماكينة حلج الغطن من البعيد، ماكينة نادر المرفوضة، كحلاوته، التي تحمل الاستغلال والتبعية، فتقوم نفيسة بقطع غزل القطن ليتناثر حراً في الهواء. وتغني: "حبيبي تعال؛ تعال نتلم. ما دام الريد اختلط بالدم. أنا ذنبي إيه شيلوني الهم ياحبيبي".

 

 

فيلموغرافيا

انتاج الفيلم لقي الدعم من مؤسسة الدوحة للأفلام "هناء عيسى وخليل بنكيران"، وسودان فيلم فاكتوري "طلال عفيفي وايلاف الكنزي وأحمد دكيستر"، وتوريتو فيلم لاب، ويوربيان شورت بيتش. وفي تظافر هذه الجهات ما يؤكد اهتمامهم بقيمته الفنية ولغته السينمائية الرصينة.

تنفيذ الانتاج تم على يد سوزانا ميرغني وايمان ميرغني. وساهم في كتابة السيناريو د. ميرغني بابكر، والمونتاج عبدالرحيم كتاب وسوزانا ميرغني، فيما اجتهدت كاميرا خالد عوض وخضر عصام في التصوير باحترافية موفقة في نحت كل لقطة. وآزرهم تنفيذ الصوت المتقن من بسام ليبوس، ثم مدير الاضاءة المعز المدني، ومصممة الإنتاج سارة عوض، ومصمم الأزياء محمد المر سيمبا، ملابس منى معاوية، مكياج وشعر ريان علي وشيماء التجاني.

مخرجة الفيلم الدكتورة الشابة سوزانا ميرغني مخرجة سينمائية مستقلة من السودان وتعيش حالياً في قطر، مهتمة بتسليط الضوء على القصص التي تروي عن معاناة وأحلام وطموحات بنات جيلها.

تشغل حالياً منصب مديرة التحرير في مركز الدراسات الدولية والإقليمية بجامعة جورج تاون.

حصلت سوزانا على درجة الدكتوراه في الاتصالات والدراسات الإعلامية من جامعة شرق البحر المتوسط.

سينماتك في ـ  22 ديسمبر 2020

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004